كلمة عابرة تسببت في حوار مفعم، ظل يلهمني بين الحين و الآخر الي الآن.
"اصل لما كنت في الهند..." التفت خلفي لأبحث عن قائل العبارة حتي استفسر منه عن رحلته الي الهند لاني طالما رغبت في السفر الي هناك للسياحة والتعرف علي ثقافة مختلفة، لم أصدق عيني عندما رأيت قائلها: امرأة وقورعلي مشارف السبعين بعباءتها السوداء وطرحتها المسدلة و نظارتها الطبية، تبدو كنموذج كلاسيكي لسيدة مصرية تقليدية، تذكرت عندما رأيتها في بداية الرحلة و اندهشت لوجود امرأة مثلها وسط مجموعة أغلبها شباب جامح أو كهول متحرر بعض الشيء، و خلصت انها ربما اشتركت في الايفينت علي أنه رحلة الي النوبة و "فسحة" و ليس للنشاطات ذاتها، اعترف بقصور حكمي حينها، و بقدرة هذه السيدة علي اثارة دهشتي –بعد فترة طويلة من انعدام الاحساس بأي شيء.
-حضرتك كنتي في الهند؟
-اه من سنتين كده.
-تبع ايه أو كده؟ اصلي كنت عايزة اروح اوي..
-ده كانت منحة يوجا تبع السفارة الهندية !
استأذنت ان انضم للحديث..لم أكن لأضيّع فرصة كهذه لشحن نفسي ! "اتفضلي معانا يا حبيبتي" بكل طيبة و حنو أم مصرية تخاطب اولادها. هذه الأم الجميلة بدأت ممارسة اليوجا من عشر سنوات-أي بعد ان تعدت الخمسين من عمرها- كمحاولة منها للتخلص من روتين الحياة و الضغوط اليومية، و اعطاء نفسها حقها من أجل حياة صحية أكثر تساعدها علي الاستمرار في واجباتها كزوجة و أم، راق لها ذلك رغم سخرية المحيطين بها، وصلت الي مستويات أعلي في اليوجا، اجتذبها الموضوع أكثر فبدأت في حضور كورسات في التأمل و فن الحياة ..حدثتني عن هذه التجربة: " هو كورس بيتعمل في دول كتير و كان الدور انه يتعمل في مصر، هو غالي شوية بس لما بتاخديه بتقدري تحضريه بعد كده ببلاش في أي حتة و مدي الحياة، مش قادرة أقولك يعني بالتفصيل كان ايه بس مثلا منه ان في مرة هيجي ناس ميعرفوش بعض تماما و بيصوا في عين بعض و يقولوا "انا انتمي اليك" ..الحميمية في الموضوع انك لما تحسي ان مالكيش لازمة في العالم و مش مهمة عند حد، هتفتكري ان في حد متعرفيش عنه حاجة انتي وجودك مهم جدا بالنسباله".
استأنفت حديثها فيما يخص رحلتها الي الهند، المنحة عبارة عن كورس يوجا في قرية قريبة من مومباي لمدة عشرة أيام، تحكي عن رحلتها تلك، قرية فقيرة جدا في الغابات ما ان تمشي فيها حتي ينبثق من قلبها معبد ضخم غاية في الفخامة، تبدأ بتسليم كل متعلقاتك: هاتفك، أموالك، اي كتب مقدسة تخص اي ديانة، و" ممنوع تتكلمي في العشر أيام دول" لم أتمالك نفسي و هتفت :
Eat pray love !
في خلال الأيام العشر، تشرف عليها متطوعات يتولين ايقاظها و تحديد المهمات اليومية لها و الاشراف علي الوجبات-باجراس او لافتات،بدون كلام- ثم في ساحة واسعة يكتظ الجميع لممارسة اليوجا و التأمل، حتي تبلغ المرحلة الأخيرة، تجلس في غرفة بحجمك تماما، و تبدأ في ممارسة التأمل الايجابي، تختار أي مشكلة لديها بشكل عشوائي، و تبدأ في التفكير في حل، لتصل الي نتيجتين لا ثالث لهما، اما الحل و خطوات تنفيذه، اما أن تلغي المشكلة من حياتها اذا لم تصل الي حل حتي يقضي الله أمرا كان مفعولا، بهذه الطريقة تستطيع أن تتخلص من التفكير غير المُجدي في المشكلات التي تؤرقها فلا تسلب منها طاقتها ، الا أنها لم تلتزم بالقواعد، فقد احتفظت بهاتف آخر سرا كي تطمئن اسرتها عليها، لذا فعند التقييم ادركت المشرفات انها فعلت شيئا ما خطأ، لانها لم تكن بالسلام النفسي المفترض بلوغه في تلك المرحلة، لذا فلن تكمل للنهاية.
سألتها سؤال مباشر، ماذا عاد عليها من وراء هذا كله، ام مجرد شيء جديد دخل حياتها؟! أجابت بأنها أصبحت في سلام نفسي أكثر، و قدرة علي التعامل مع الحياة بسلاسة أكثر، و ان اليوجا أو التأمل مثل الصلوات و الاعتكاف و التهجد و التعبد، ما هي الا فسحة روحانية من أجل الحفاظ علي التوازن في حياتنا و الذي ينعكس بدوره علي آداء أفضل في كافة أنحاء الحياة.
و ظلت هذه السيدة وهذا الحوار يشكلان ركن مريح آوي اليه كلما اشتدت المتاعب و الضغوط و ان كونها تقليدية هكذا و في سنها تلك يعطيني أمل بأن كل شئ ممكن. اشكرها من صميم قلبي.
علي الناحية الأخري من هذه السيدة الوقور، تعرفت علي شابة منطلقة، ظننتها أجنبية في أول الأمر، شقراء، طريقة ملابسها، و لا تتحدث الا بانجليزية بلكنة امريكية، وتصاحبها أخري يبدو من لكنتها و شكلها انها اسبانية ، اكتشفت ان هذه الشقراء لم تكن سوي مصرية و لكنها وُلدت في كندا، و حاليا تعيش بلندن، و ستنتقل قريبا لتعيش في برشلونة و لكنها حاليا في زيارتها الأولي لمصر، رغم انها مصرية !
كانت تعتبر جارتنا في المكان، في احدي جلسات السمر قبل انتهاء الرحلة بيوم واحد أعربنا عن استغرابنا لكل هذه الهويات التي تجمعها، مصرية تتحدث العربية بطلاقة، بشكل أجنبي، تبدو في كلامها و طريقتها كهجين، طلبنا منها ايضاح أكثر في سياق الدردشة.
يبدو أن هذه الهويات كانت أقل ما يظهر لنا من مجمل هوياتها !
كان أبوها و امها مصريين تزوجا ثم هاجرا الي كندا، حيث أنجباها ، و عندما بلغت حوالي العاشرة انتقلوا الي السعودية للعمل و حتي يتشبع الأبناء بالهوية العربية في سنهم الحرجة، ثم رجعت الي كندا مرة أخري لاستئناف دراستها، و لانها كانت فتاة طموح نشيطة، فتفوقت في دراستها و اجتازت مراحل عديدة في وقت قصير، الي جانب عملها بمهن شتي و هي بعد في المدرسة- في سوبر ماركت، نادلة..الخ- فانتهي الأمر أن تم توظيفها في احدي الشركات العالمية و هي في بداية العشرينات.تحكي لنا ان العمل ظل يلتهم وقتها، و ظلت الضغوط تتزايد حتي جاءت اللحظة التي قررت فيها ان تبدأ بتغيير جذري في حياتها و تبحث عن ذاتها، حدث هذا حينما حسدتها احدي الصديقات علي كم البلاد التي تزورها من خلال عملها، حينئذ تذكرت انها زارت خمسة بلاد في ثلاثة أيام، و ان زيارتها للبلد كانت من خلال شباك السيارة في مدة لا تزيد عن ثلاث ساعات، في طريقها من المطار الي اجتماع و العكس،و انها لم تستطع حتي التقاط صورة للمدن، كانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير..استقالت و قامت بتصفية كل أعمالها في لندن حيث تزوجت و عاشت بعد كندا، و بدأت رحلتها مع زوجها حول العالم.
كان مبدأها أن تكتشف نفسها من خلال بحثها في العالم، ان تكون مسافر يتوغل في حياة الأماكن، و ليس سائح أو زائر يلتقط صورا للأماكن المجردة و يمكث بمعزل عن روح البلد الحقيقي.
Eat pray love مرة أخري
بدأت رحلتها بستة أشهر في أمريكا الجنوبية ، حدثتنا عن المدن التي مكثت فيها و الحكايات و الصور، و رحلاتها الجبلية و التسكع في الشوارع الخلفية، ثم ثلاثة أشهر في استراليا، ثم سنة جنوب شرقي آسيا..و بالي،كمبوديا،نيبال.. و طباع الناس ،طباع المسلمين غير العرب و الهندوس و البوذيين،و الجزر و الأكواخ و الأكلات، ثم اوروبا بعين المسافر و ليس بعين مديرة جاءت لاتمام صفقة في الفنادق الفخمة أو قاعات الشركات الباردة.
والآن هي في نهاية رحلتها بعد ان امضت ثلاث سنوات تستكشف العالم و تعيد اكتشاف شخصها الحقيقي، استقرت علي ان تنهي رحلتها في مصر-مع شريكتها المستقبلية في العمل،صديقتها الاسبانية، ثم تبدأ مشروعها الخاص في برشلونة-لانها أكثر مدينة أحبتها خلال رحلتها-و الذي يتلخص بأنه سيكون بيت أقرب الي فكرة بيوت الشباب منه الي الفنادق، تملأه بكل الهدايا التذكارية التي جمعتها اثناء رحلتها تلك، و تنظم رحلات في برشلونة يجوبوا فيها الأزقة و بيوت الكتالونيين من خلال تجربة الأطعمة في تلك الأماكن، و بهذا تكون قد أشبعت رغبتها في أن يتعرف المسافرين علي البلد الحقيقية، تماما كما فعلت هي.
رغم أن القصة في مجملها ملهمة جدا في حد ذاتها، الا ان اكثر ما لمسني هو ما نتج فيها من رحلتها تلك، مخزون خصب و متجدد من التجارب و الحكايات و ثقافات الشعوب قصتها علينا، هي نفسها تقول انها اصبحت اكثر خفة و انطلاقا و متألقة عن ذي قبل.
أذكر اننا بعد هذا آوينا جميعا الي النوم استعدادا للمغادرة باكر اليوم التالي.
اذكر كذلك انني لم أشعر بمرور اثنتي عشر ساعة في قطار أسوان الي القاهرة من فرط الحالة الحالمة التي كنت عليها، أنا عائدة الي الحياة الروتينية مرة أخري بكل ما فيها من زحام و ازعاج و ارهاق بعد رحلة في احضان النيل في النوبة و بعد جدول يومي غني بكل ما يغسل الروح بما علق بها من شوائب الضغوط الحياتية، و بعد حكايات تمثل لي كنز الجأ اليه كلما ضاق بي الحال، كل الطرق تؤدي الي الروح والكنز في الرحلة فعلا كما يقولون.
واذكر اني لازلت افكر في تلك الأيام كحلم جميل تسنّي له أن يكون حقيقي، كم أنا محظوظة !


