بدأت الرحلة بالنسبة الي منذ وصول ايميل مرفق به البرنامج الزمني لأنشطة الرحلة.
القرار في باديء الأمر كان مجرد تحدي أو خروج عن المألوف،عندما تطالعك صور أو ايفينتات و لا تملك سوي قول "الجمال" "هيح" و" الأي حاجة جولز" ثم تنصرف الي حال سبيلك ، كنت أنظر للموضوع -رغم اشتراكي بالفعل- بنفس تلك النظرة، خاصة ان الحجز كان قبل السفر بفترة طويلة و سفري بمفردي اصلا ضاعف من احساسي انه شيء سيذهب الي حال سبيله، لذا بمجرد ان تفقدت البرنامج امتلأت بحماس طفلة صغيرة تستكشف عالم جديد؛ قائمة بما يحتاجه الفرد في المعسكر، يوجا و تأمل اما وقت الشروق أو الغروب، حفلات لفرق صوفية مساء.. ايفينت صديق للبيئة "يرجي مراعاة استهلاك الماء و الكهرباء" "المنتجات و الوجبات من انتاج القرية و تقدم في أوانٍ محلية" ..كل شيء يبدو مختلف و مبهج.
لم أكن أتوقع آنذاك أن كل هذا الذي تحمست من أجله لم يكن سوي نذر يسير من الثراء الذي عدت به من مهرجان روح، تجلّي معني "الكنز في الرحلة" في أبهي صوره، كما تتوقع أيها القاريء الآن أن اسهب في سرد تفاصيل ما قمنا به، و لكن في الواقع لم يكن هذا هو الكنز الحقيقي في الرحلة، الكنز الذي عدت به كان مجرد دردشة مع أشخاص، أشخاص حقيقيين و ليس افتراضيين، دردشة عن أحداث حقيقية كانت مجرد خيالات بعيدة في رأسي أو "جولز" مفصولة تماما عن حياتي الواقعية.
هل سبق أن طرح عليك أحدهم السؤال المعتاد "نفسك تطلع ايه لما تكبر؟" او سؤال آخر من نوع " ايه هواياتك أو اهتماماتك؟"
هذه النوعية من الأسئلة تشكل لي معاناة، لأن الرد ينحصر في اختيارين:اما أن أفصح عن الاجابة صراحة و في أغلب الأحوال تكون هلامية و غير مفهومة للسائل، اما أن أعيد صياغة الاجابة بشكل يمكن أن يتقبله الناس، أما وجود اختيار ثالث و هو أن أفصح عنها كما هي و أجد من يتفهمها يعتبر في عداد المستحيل، فما بالك أن وجدت نفس اجابتي.. تتجسد أمامي..في حيز التنفيذ !
اجابة السؤال هي: أهتم بالعلوم الانسانية، كل ما يمت بصلة للانسان و حضارته و أثره في الحياة ، أهتم بعلوم الاجتماع، اللغات، التاريخ ، الفن، الفلسفة، الأديان، الأدب ،السفر،الانثروبولجي...حتي العلوم كالفيزياء و الكيمياء و الطب -الذي أدرسه فعليا -أشعر أنه يمكن درجها في حياتنا اليومية و في التعاملات الانسانية و ليس مجرد علوم بحتة فحسب..اجمالا أي شيء يتيح لي أن أعرف، لدي هوس بالمعرفة، ليس العلوم و القراءة بقدر المعرفة في حد ذاتها، من تجارب من أشخاص من قراءات من آثار من سفر و هكذا، لذا فحين أجيب علي أيا من السؤالين السابقين لا أجد اجابة صريحة، الكنز الذي وجدته كان اجابة صريحة.
"أنا أدرس الحياة !" قالها بكل بساطة، بالانجليزية، هذا الرجل الذي اصطلحت أنا و بعض ممن تعرفت عليهم في الرحلة علي تسميته بالرجل الغريب، خمسيني ذو شعر أبيض منسدل حتي خصره، يرتدي ثياب غريبة تشعر أنها قطع قماش متناثرة خيطت سويا، كل فترة نجده مع مجموعة مختلفة، يحمل كاميرته و يتجول في كافة الأوقات، يتعامل كأنه ابن الطبيعة يفترش الأرض في أي مكان و في أوقات النوم ينعزل بعيدا علي ضفاف النيل.
كنت اعتبره أجنبي و ان كان يصعب علي تحديد جنسيته، آثرت ان انتظر حتي أعرف اسمه عله يساعدني في التخمين، اكتشفت ان اسمه عربي، شامي علي الأرجح، اختبرنا في بعض المفردات العربية الصعبة، يتحدث العربية بنفس طلاقة الانجليزية التي رد علينا بها، "أدرس الحياة" أي تلقي تعليم ذاتي في كافة المجالات الانسانية، مهنته كما يقول مصور، صانع أفلام،رسام،كاتب و أشياء أخري، حدثنا عن العلاقات بين الناس، كيف أن هناك رابطة أيونية في بعض العلاقات كما في علاقة الرجل الشرقي بالمرأة، تعطيه حريتها و ابداعها وطاقتها في مقابل أن يمنحها المسكن و يعولها، و كيف أن العلاقة الأمثل هي رابطة تساهمية، القائمة علي المشاركة و ليس "هات و خد" كما يتحد "غاز" الاوكسجين مع "غاز" الهيدروجين لينتج "سائل" الماء،فالمشاركة تفضي الي منتج جديد تماما مختلف عما تألف منه في الأصل..و هذه هي روعة العلاقات بين البشر عامة، و كيف أن بعض الأشخاص كالغازات الخاملة و التي تظن نفسها نبيلة، تنأي بنفسها عن أي تفاعل.لا أعرف ديانته بالتحديد و ان كنت أعتقد من سياق الكلام انه لا يعتنق ديانة بعينها، ولائه للطبيعة..كان بداية حديثه معنا في الأصل أننا-أنا وفتاة أخري- كنا نرغب في السباحة في النيل في شط البربر و لكن لا نملك الثياب اللازمة، فتدخل في الحوار أننا نمنع عن نفسنا المتع و نقتل روحنا الأصلية الحرة من أجل اعتبارات الناس و الأشياء اللازمة و خلافه و أن الحياة و الطبيعة أجمل من ذلك كثيرا و لكن نحن من نشوهها "لا تعتبروني مجنونا أقول الكلام اعتباطا، لقد واجهت عاصفة رملية ثلاث مرات و نوات كثيرة و فيضان في آسيا، و لا زلت عند رأيي" قال ذلك عندما أحس أننا نجاريه فقط، أرانا كتاب له هو بالأحري مخطوطة مذييلة بملاحظاته و حافلة برسوماته، قال هذا الكتاب لا يباع، قيمته في أن تقتنيه و ليس أن تشتريه بالمال، أرانا ايضا مقال مقصوص من صحيفة مصرية عن كونه " رجل يصنع كل شيء" ،عرفت الآن لماذا انتابني الاحساس الغريب تجاه ملابسه، كل ملابسه يخيطها بنفسه، أثاث بيته هو من صنعه، عندما يتحدث لا أصدق ما أسمعه، لم أتخيل ابدا أن أسمع داخلي يتحدث أمامي، يتجسد حقيقيا في شخص هذا الرجل الغريب.
لنتذكر ما السبب الأصلي للانضمام الي مهرجان روح، التزامن، الجدل الذي ذكرته آنفا في المقال السابق، ما زالت شكوكي في يقيني الروحاني تعتمل بداخلي، أعتقد كان رغبة مني في شحنة تصلح للتعتيم علي هذه الشكوك، لحسن الحظ واجهت الشكوك صدفة، أو نقل هي التي واجهتني بنفسها.
كان أعضاء أحد الفرق الصوفية المشاركة في فعاليات المهرجان متواجدين معنا طوال المدة، أتيح لنا جميعا أن نستمتع بصحبتهم الجميلة و غنائهم المتصل، ولكن أتيح لي و لبعض المحظوظين الآخرين أن نسمع قصة تأسيس الفرقة.
مؤسس الفرقة الصوفية، الذي يتغني بحب الله و رسوله، أمضي ثماني و عشرون سنة من اجمالي ثلاثين-عمره الآن- لا يصلي و لا يعرف عن الدين شيء، و كان يقود فرقة روك ، كأغلبنا لجأ الي الله لحاجة في نفسه، كما نفعل أيام الامتحان مثلا، و لما تأخرت الاجابة أشار عليه صديق بأن" الله يحب العبد اللحوح"، ألح في طلبه، أصبح غاية منيته مع هذا الالحاح تتحول الي أن يهبه الله الخشوع، أن يكون عبدا ذا وصل مع الله، يقول في يوم و قبل ان يغادر المسجد بلحظة سمع حديث بين اثنين عن أن مشكلة الخشوع مشكلة عامة مع أنها سهلة الحل جدا، خفق قلبه لسماع ذلك، رسالة ربانية واضحة، انضم للحديث و سأل عن الحل، فكان الذكر. كثرة الذكر تلين القلب، تسائل صاحبنا كيف يكون الذكر، فكان الرد الاستغفار الكثير و الصلاة علي النبي..لم يكن يعلم كيف تكون الصلاة علي النبي اصلا!
بعد أن لزم الذكر، جاءه الوصل، أحد الشيوخ في المنام يطلبه، لبي النداء وزاره و لبث لديه فترة، و من بعدها صار شخص آخر، أحب دروب العشق الالهي، و أسس الفرقة كي ينقل تجربته تلك الي آخرين، الدين في وجهه السمح الكريم.
"روح" كل الطرق تؤدي الي الروح، بلا عوائق، أيا كان الطريق..بعد هذا الحديث مباشرة وجدت صاحب الفرقة و الرجل الغريب يتمشيان سويا و يتحدثان بحميمية، و رحلا بعيدا نحو الروح.
هل سبق أحدكم أن شاهد فيلم أو قرأ "طعام..صلاة..حب"
eat pray love?
أنا واحدة من الذين يحلمون أن يكونوا مثل جوليا روبرتس في الفيلم، أغلبنا حين يشاهده يسرح في خيالاته بأن يسافر و يستكشف و ما الي ذلك، بالنسبة الي طبعا يعتبر "جولز" في العالم الموازي. وجدت الفيلم أمام عيني أيضا ! سأحدثكم عن ذلك في المقال القادم.


